علي لفتة سعيد :
قيل عن الرواية إنها (كيس منفوخ تضع فيه أي شيء) كون مادتها قابلة لامتصاص ما يدور وما يمكن أن يحدث أو يؤثر أو يشير أو يفسر في المحيط وبالتالي الإحاطة بعناصر الصراع من جوانبه المتعددة من خلال توظيف السرد أو توظيفها في خدمة السرد.. وقيل في حداثتها أو قيل عن الرواية الحديثة إنها ( لا قواعد لها مفتوحة الأبواب والنوافذ على الأشكال والصراعات الممكنة الحدوث التي يراها الروائي غير محددة الأطر) أي ليس لها وازع وليس لها تسلسل منطقي.. بمعنى إن السرد الحديث يضع قوالبه في المكان الذي يريده الكاتب لا الذي يريده السرد المنطقي..
وبالتالي فان المادة هنا قابلة لامتصاص ما يدور في ذهن الكاتب من اجل الوصول إلى خلخلة ما هو متعارف عليه،لإنتاج شكل جديد له صلاحية مشاغلة القارئ واستغلال طاقاته القرائية للتوصل إلى فهم القصد وهضم المعنى والحصول على ( الكم ) الفلسفي..لان القراءة ما عادت مادة لقتل الفراغ أو إنها درس تعليمي..ولان الرواية حسب تعريفها الذي جاء في كتاب صنعة الرواية إنها ( فن خيالي نثري أو حكاية ذات طول معين تصور فيها شخصيات أو أفعال تمثل الحياة الحقيقية للماضي أو الحاضر على شكل حبكة ذات تعقيد ما ). من هنا فان السؤال الذي يبرز.. ما الفرق بين عناصر الروايتين من ناحية استلهام روح التعريف من جهة وما يريده القارئ من جهة أخرى ؟ وأين تكمن عناصر الاختلاف؟
إن الإجابة ستجعلنا نراجع (اجندتنا) بهدوء فنجد إن عناصر السرد، أو لنقل مكونات الرواية، تكاد تكون واحدة..إذ لا بد من توافر المكان والزمان والشخصيات والصور والصراع والحوار وبالتالي وجود ( تفسير) ظاهر أو مضمر لقصدية اختيار الموضوعة حتى لو كانت نسب هذه المكونات متفاوتة أو مجزأة من اجل الوصول إلى المعالم الرئيسة لفهم المغزى المستور وغيره.مما يبحث عنه القارئ..إذن أين الاختلاف بين أن تكون الرواية عبارة عن كيس منفوخ وبين أن تكون لا قواعد لها وليس لها تسلسل منطقي؟إذا كان السؤال موجها إلى القارئ فان الإجابة التي يبحث عنها هي أن الحداثة عنده تختلف بدرجة ما عن الحداثة التي جاء بها النقاد الذين طوروا مفهوم الحداثة إلى مفهوم ما بعد الحداثة وجعلوه مصطلحا لم تحدد فصوله بعد لأن التجريب والتجديد هما من أهم مشكلات الحداثة وهما ينموان بصورة طردية بين عصر الكتاب وعصر القارئ فكلاهما يعيش في وقت واحد ولذلك نرى إن الزمن السابق للقارئ أي زمن الكتابة دائما يكون تحت ميزان التحليل المستمر بقوة تعادل أضعاف عصر القارئ الموافق لزمن الكتابة، لذلك فان مفهوم الحداثة يعده النقاد مفهوما نقديا أو فكريا وجاء ( لتخليص الإنسان من أوهامه وتحريره من قيوده وتفسيره للكون تفسيرا عقلانيا واعيا) ولان هذه هي الغاية الأساسية فقد جعلوه في حالة تقاطع لأنه (لا يتم ما لم يقطع الإنسان صلته بالماضي ويهتم باللحظة الراهنة العابرة أي بالتجربة الإنسانية كما هي في لحظتها الآنية )..ومن خلال النظر إلى هذا المفهوم وربطه بالإنتاج الروائي وبالتعريف الثاني آنف الذكر..فان استخلاص المغزى يؤدي إلى أن ليس هناك ثابت دائما يحكم التحول وبالتالي فان التفسير العقلاني لا بد من أن ينحاز إلى وجه من وجوه الإنتاج الثقافي..وبنظرة أخرى إلى هذا المفهوم نجده ينادي (بعدم ثبات المعنى وعدم جوهريته فلا شيء تحت السطح سوى السطح).. من هنا نتساءل أيضا هل الرواية الحديثة على وفق هذا المفهوم وعلى وفق إطلاق التسمية عليها على إنها رواية حداثوية أو إنها تنتمي إلى الرواية الجديدة لا تهتم بالعمق وبعدم ثبات المعنى الذي تألفت منه الرواية أصلا.؟
إن الشروع بان هذه الرواية قد حددها كاتبها سلفا على كونه يريد لروايته أن تكون على وفق هذا المنظور وحتى على وفق التعريف الثاني الذي يعده بعضهم تقليديا أو كلاسيكيا لا يؤدي إلا إلى الرتابة لأنه سيستخدم أدوات سردية مملة هي عملية قتل للرواية نفسها لان هذا سيؤدي إلى إحباط القارئ ما لم نجد عناصر الصنعة متكونة أصلا من خلال الموضوعة أو من خلال الغاية التي أدت إلى أن يكون الإنتاج لا وازع له..لان مفهوم القارئ لا يتعدى عن كون الحداثة هي اللعب في الشكل واستغلال خلخلة التسلسل المنطقي كما هو معمول به في روايات العقود الماضية..فإذا ما أخذنا الروايات البكر سنجد إنها جاءت لتلبي حاجة أساسية من حاجيات الذات..ثم ننظر إلى ما بعدها سنجدها رواية جديدة منذ ذلك التاريخ الذي تلا مرحلة الولادة أي إنها كانت رواية حديثة أو ما يصطلح عليه الآن ( ميتا رواية ) لأنها بسهولة ولدت لتكون محمولة على أسباب التجريب ومخالفة لما هو كائن من اجل إعلاء شأن الرواية والانتقال من مرحلة تلبية الحاجات الذاتية إلى مرحلة الانتفاع ومن ثم الارتفاع بالمستوى الاجتماعي الطبقي والتعليمي وصولا إلى مرحلة استخلاص الكم الفلسفي ومشاغلة العقل لتكوين رؤى جديدة وبالتالي صار الإبداع كما تقول ( ناتالي ساروت ) هو الذي لا يراه غير المبدع..كون إن كل ما يقال مأخوذ من واقع معاش لكنه بعيد عن رؤية القارئ، مهما تغرب عنه ومهما كانت درجة عمق المخيلة .
إن الاختلاف الذي يتبناه الكتاب في أن تكون رواياتهم ( حداثوية) لا يخرج على سياق أساسيات تكوين الرواية إلا بما تسمح الفكرة (الموضوعة) للتلاعب بالشكل لاسباب عديدةٍ.. ومن هنا فان الصنعة هي واحدة من أساسيات الارتقاء فيتخذها المنتج سبيلا لان الطريق الموصل إلى مشاغلة العقل وعد نصه الروائي نصا مكتوبا لا مقروءا يبدأ من خلال استلهام روح العصر وتفسيره تفسيرا عقلانيا مستفيدا من التجربة الإنسانية..وكل ذلك مرده لان يجعل القارئ يشاركه من جديد في كتابة ثانية للرواية كما يقول النقاد في مفهوم التلقي.. ومن الأصح أن نقول أن يفهم القارئ القصدية ومغزى العمل الذي أراده الكاتب حتى لو تشعبت تلك القصديات لان في هذا التشعب يكمن الإبداع ويأخذ العمل مساحة واسعة من التفكير والمناقشات والتحليل للوصول إلى غاية الكاتب ومداركه بعيدا عن كل حقول ومصطلحات النقاد لأنها لن تقف عند حد.. فسرعان ما يأتون بشيء جديد ليجدوا أنفسهم وقد تخلوا عما جاءوا به سابقا نتيجة لتطورات العصر أو لتطور رؤاهم ولنا في البنيوية مثال على ذلك .
نعود إلى سؤالنا لنقول وجهة نظرنا بهدوء لا تحتمل الغموض..إن الرواية ما هي إلا كتاب حافل بأجزاء المتناقضات والمتفقات وجامع لأجزاء الدروس المختلفة للعلوم الأخرى وحامل قصديات يراد منها تخويل الذات بان تخاطب الآخر من زاوية غير منظورة أو من خلال خط وهمي يتصل بالصفحات وينتهي بفهم المغزى ومداعبة العقل واستغلال طاقاته الفيزياوية لتكوين فعل أخاذ يتحرك كحركة الذرات التي تتلاقح لانتاج خاصية فلسفية لها أبعاد تشويقية .
فهل تكون الرواية الحديثة حاملة هذا الرأي هي الأجدى والأنفع للقارئ..أم تبقى الرواية التي عرفت بقاموس اكسفورد هي الرواية التي يجب ألا تغيب عن الحسبان ؟.
إن الإجابة هنا ستكون محض افتراء لان الرواية الحديثة يحب ألا تخرج على كونها رواية حاملة عناصرها التكوينية بعيدا عما يبتغي منتجها من أن تكون صنعته الغاية القادرة على تلبية احتياجاته الإعلامية وكذلك فان الرواية الواقعية أو التقليدية أو ما يقال عنها الآن (الرواية القديمة) لم تعد تواكب روح العصر إذا ما بقيت على مسارها تتابع حركة الشخصيات وتقوم برسم المكان والإطناب بالسرد على حساب المغزى، لذلك نرى إن الرواية هي مزج بين الحالتين وتلك خاصية الإبداع القادرة على رسم عناصر الرواية التي يتقبلها القارئ ويسارع إلى قراءتها.. فكم من رواية اسهم النقاد في صناعة جودتها لكنها بقيت حبيسة الرفوف. والعكس صحيح .